كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَإِنْ كَانَ الْبِكْرُ نِضْوَ الْخَلْقِ إِنْ ضُرِبَ بِالسَّوْطِ تَلِفَ، ضُرِبَ بِإِثْكَالِ النَّخْلِ اتِّبَاعًا لِفِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ فِي مِثْلِهِ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِذَا كَانَ حَدُّ النِّضْوِ الرَّجْمُ، فَإِنَّهُ يُرْجَمُ لِوَقْتِهِ: لِأَنَّهُ لَا يُرْجَى زَوَالُهُ وَهُوَ فِي وُجُوبِ الرَّجْمِ كَمَيَّتِهِ. وَإِنْ كَانَ حَدُّهُ الْجَلْدَ، وَهُوَ نِضْوُ الْخَلْقِ ضَعِيفُ التَّرْكِيبِ، وَإِنْ كَانَ سَلِيمَ الْخِلْقَةِ، فَحَدَثَ بِهِ مَرَضٌ لَا يُرْجَى زَوَالُهُ فَأَنْهَكَهُ حَتَّى صَارَ بِمَنْزِلَةٍ إِنْ نَالَهُ أَلَمُ الضَّرْبِ أَتْلَفَهُ جلد الزاني، فَهُوَ وَالْمَخْلُوقُ كَذَلِكَ سَوَاءٌ فِي الْجَلْدِ إِذَا زَنَيَا. وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ جَلْدِهِمَا عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ يَعْدِلُ عَنْ جَلْدِهِ بِالسَّوْطِ إِلَى إِثْكَالِ النَّخْلِ، فَيَجْمَعُ مِنْهَا مِائَةَ شِمْرَاخٍ يُضْرَبُ بِهَا ضَرْبَةً وَاحِدَةً، وَلَا يُعْتَبَرُ فِي جَلْدِهِ السَّوْطُ وَلَا الْعَدَدُ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ: أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي جَلْدِهِ السَّوْطُ وَالْعَدَدُ كَغَيْرِهِ.
وَالثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِيهِ السَّوْطُ وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْعَدَدُ، فَيُجْمَعُ مِائَةُ سَوْطٍ وَيُضْرَبُ بِهَا دَفْعَةً وَاحِدَةً. وَاسْتَدَلَّ مَنْ جَعَلَهُ كَغَيْرِهِ بِعُمُومِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النُّورِ: 2]. وَدَلِيلُنَا: رِوَايَةُ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ مُقْعَدًا أَسْوَدَ فِي جِوَارِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ زَنَا فَأَحْبَلَ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُجْلَدَ بِأَثْكَالِ النَّخْلِ. وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ اشْتَكَى حَتَّى ضَنِيَ وَعَادَ جِلْدُهُ عَلَى عَظْمِهِ، فَدَخَلَتْ عَلَيْهِ جَارِيَةٌ لِبَعْضِهِمْ فَهَشَّ لَهَا فَوَقَعَ عَلَيْهَا، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ رِجَالُ قَوْمِهِ يَعُودُونَهُ أَخْبَرَهُمْ، وَقَالَ: اسْتَفْتَوْا لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ. وَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَا رَأَيْنَا أَحَدًا مِنَ النَّاسِ بِهِ مِنَ الضُّرِّ مِثْلَ مَا بِهِ، مَا هُوَ إِلَّا جِلْدٌ وَعَظْمٌ. فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْخُذُوا مِائَةَ شِمْرَاخٍ فَيَضْرِبُوهُ بِهَا ضَرْبَةً وَاحِدَةً. وَهَذَا نَصٌّ فِي هَذَا الْبَابِ، وَبِمِثْلِ هَذَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَدْ حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّ زَوْجَتَهُ مِائَةً، فَقَالَ: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص: 44] حَكَى الشَّافِعِيُّ مُنَاظَرَةً جَرَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ خَالَفَهُ فِيهِ، فَقَالَ: قَالَ لِي بَعْضُهُمْ: لَا أَعْرِفُ الْحَدَّ إِلَّا وَاحِدًا، وَإِنْ كَانَ مَضْنُوءًا مِنْ خِلْقَتِهِ. قُلْتُ لَهُ: أَتَرَى الْحَدَّ أَكْبَرَ أَوِ الصَّلَاةَ؟ فَقَالَ: الصَّلَاةُ. قَالَ: كُلُّ فَرْضٍ قَدْ نَأْمُرُهُ فِي الصَّلَاةِ أَنْ يُصَلِّيَ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَجَالِسًا، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبِهِ. فَقَالَ: هَذَا اتِّبَاعُ سُنَّةٍ، وَمَوْضِعُ ضَرُورَةٍ. قُلْتُ: فَكَذَلِكَ الْجَلْدُ اتِّبَاعُ سُنَّةٍ وَمَوْضِعُ ضَرُورَةٍ. قَالَ: فَقَدْ يَتْلَفُ الصَّحِيحُ الْمُحْتَمِلُ لِلضَّرْبِ، وَيَعِيشُ النِّضْوُ الضَّعِيفُ. قُلْتُ: إِنَّمَا إِلَيْنَا الظَّاهِرُ، وَالْأَرْوَاحُ بِيَدِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ. وَهَذَا دَلِيلٌ وَاضِحٌ وَجَوَابٌ مُقْنِعٌ.
فصل: فَإِنْ سَرَقَ هَذَا النِّضْوُ الْخَلْقَ، وَعُلِمَ أَنَّ الْقَطْعَ قَاتِلُهُ جلد الزاني فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَسْقُطُ عَنْهُ الْقَطْعُ فِي السَّرِقَةِ كَمَا يَسْقُطُ عَنْهُ عَدَدُ الْجَلْدِ فِي الزِّنَا: لِأَنَّ الْمَقْصُودَ زَجْرُهُ دُونَ قَتْلِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُقْطَعُ كَغَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي جَلْدِ الزِّنَا مُخَالِفًا لِغَيْرِهِ: لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَطْعَ اسْتِهْلَاكٌ كَالرَّجْمِ فَاسْتَوَيَا فِيهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ لِلْقَطْعِ بَدَلٌ، وَلِلْجَلْدِ بَدَلٌ فَافْتَرَقَا، وَلَكِنْ لَوْ كَانَ الْقَطْعُ مُسْتَحِقًّا فِي قِصَاصٍ وَجَبَ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْهُ وَجْهًا وَاحِدًا، وَلَوْ كَانَ الْجَلْدُ مُسْتَحِقًّا فِي حَدِّ قَذْفٍ حُدَّ كَحَدِّ الزِّنَا.
مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَا يَجُوزُ عَلَى الزِّنَا وَاللِّوَاطِ وَإِتْيَانِ الْبَهَائِمِ إِلَّا أَرْبَعَةٌ، يَقُولُونَ: رَأَيْنَا ذَلِكَ مِنْهُ يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مِنْهَا دُخُولَ الْمِرْوَدِ فِي الْمُكْحُلَةِ.
قَالَ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: قُلْتُ: أَنَا وَلَمْ يَجْعَلْ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ إِتْيَانَ الْبَهِيمَةِ زِنًا، وَلَا فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ فِي مَسِّ فَرْجِ الْبَهِيمَةِ وُضُوءًا. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى أَرْبَعَةِ فُصُولٍ: أَحَدُهَا: فِي الزِّنَا.
وَالثَّانِي: فِي اللِّوَاطِ.
وَالثَّالِثُ: فِي إِتْيَانِ الْبَهَائِمِ.
وَالرَّابِعُ: فِي الشَّهَادَةِ عَلَى ذَلِكَ. فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ وَهُوَ الزِّنَا تعريفه: فَهُوَ أَنْ يَطَأَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ بِغَيْرِ عَقْدٍ وَلَا شُبْهَةِ عَقْدٍ، وَلَا بِمِلْكٍ، وَلَا شُبْهَةِ مِلْكٍ، وَلَا شُبْهَةِ فِعْلٍ عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ، فَيَجْتَمِعُ فِي وَطْئِهِ هَذِهِ الشُّرُوطُ السِّتَّةُ. فَأَمَّا الْعَقْدُ: فَهُوَ مَا صَحَّ مِنَ الْمَنَاكِحِ. وَأَمَّا شُبْهَةُ الْعَقْدِ: فَهُوَ مَا احْتَمَلَهُ الِاجْتِهَادُ مِنَ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ، كَنِكَاحِ الْمُتْعَةِ، وَالشِّغَارِ، وَالنِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ، فَهَذَا وَمَا جَانَسَهُ مِنْ شُبْهَةِ الْعُقُودِ الْمَانِعُ مِنْ حَدِّ الزِّنَا، وَالْمُوجَبُ لِلُحُوقِ الْوَلَدِ. وَأَمَّا الْعَقْدُ عَلَى ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ كَالْأُمَّهَاتِ، وَالْأَخَوَاتِ، وَالْخَالَاتِ، وَالْعَمَّاتِ مِنْ نَسَبٍ أَوْ رِضَاعٍ، فَلَا يَكُونُ مِنْ شُبْهَةِ الْعُقُودِ، وَيَكُونُ الْوَاطِئُ فِيهِ زَانِيًا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَكَذَلِكَ لَوْ نَكَحَ مُعْتَدَّةً أَوْ مُطَلَّقَةً مِنْهُ ثَلَاثًا قَبْلَ زَوْجٍ وَوَطَءَ فِيهِ، كَانَ مِنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ كُلِّهَا زَانِيًا، وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: اسْمُ الْعَقْدِ يَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ الْحَدِّ، وَإِذَا وَطَءَ أُمَّهُ، أَوْ أُخْتَهُ، أَوْ مُعْتَدَّةً بِعَقْدِ نِكَاحٍ، لَمْ يَجِبِ الْحَدُّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا. حَتَّى قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَوِ اسْتَأْجَرَ امْرَأَةً لِيَزْنِيَ بِهَا أَوْ يَسْتَخْدِمَهَا فَوَطِئَهَا، فَلَا حَدَّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ وَطْءٌ عَنْ عَقْدٍ فَاسِدٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ فِيهِ الْحَدُّ قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الْمَنَاكِحِ الْفَاسِدَةِ. قَالَ: وَلِأَنَّهُ وَطْءٌ لَا يُحَدُّ بِهِ الْكَافِرُ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُحَدَّ بِهِ الْمُسْلِمُ كَالنِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ. قَالَ: وَلِأَنَّ مَا لَمْ يَنْطَلِقْ عَلَيْهِ اسْمُ الزِّنَا لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ حُكْمُ الزِّنَا: لِأَنَّ الْحُكْمَ تَابِعٌ لِلِاسْمِ. وَاسْتَدَلَّ بِأَنَّ اسْمَ الزِّنَا غَيْرُ مُنْطَلِقٍ عَلَيْهِ: أَنَّ الْمَجُوسَ يَنْكِحُونَ أُمَّهَاتِهِمْ وَأَخَوَاتِهِمْ، وَلَا يَجْرِي عَلَيْهِمُ اسْمُ الزِّنَا وَلَا حُكْمُهُ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} [النِّسَاءِ: 22]، وَالْفَاحِشَةُ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ هِيَ الزِّنَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النِّسَاءِ: 15]. وَرَوَى دَاوُدُ بْنُ الْحُصَيْنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ وَقَعَ عَلَى ذَاتِ مَحْرَمٍ فَاقْتُلُوهُ وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مُوَاقَعَتِهَا بِالنِّكَاحِ: لِأَنَّ غَيْرَ النِّكَاحِ يَسْتَوِي فِيهِ ذَاتُ الْمَحَارِمِ وَغَيْرُهَا. وَرَوَى أَشْعَثُ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، قَالَ: مَرَّ بِي خَالِيَ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ دِينَارٍ وَمَعَهُ لِوَاءٌ، فَقُلْتُ أَيْنَ تُرِيدُ؟ فَقَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ أَبِيهِ أَنْ آتِيَهُ بِرَأْسِهِ. وَرُوِيَ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا أَطُوفُ عَلَى إِبِلٍ لِي ضَلَّتْ، إِذْ أَقْبَلَ رَكْبٌ أَوْ فَوَارِسُ مَعَهُمْ لِوَاءٌ، فَجَعَلَ الْأَعْرَابُ يَطِيفُونَ بِي لِمَنْزِلَتِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ أَتَوْا قُبَّةً فَاسْتَخْرَجُوا مِنْهَا رَجُلًا فَضَرَبُوا عُنُقَهُ، فَسَأَلْتُ عَنْهُ فَذَكَرُوا أَنَّهُ أَعْرَسَ بِامْرَأَةِ أَبِيهِ.
وَلَمْ يَكُنْ هَذَا مِنْهُمْ إِلَّا عَنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ هَذَانِ الْخَبِرَانِ فِي رَجُلَيْنِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ: لِاخْتِلَافِ الْحَالَيْنِ. وَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ فِي رَجُلٍ وَاحِدٍ، رُوِيَ عَلَى لَفْظَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ، وَحَالَتَيْنِ مُتَقَارِبَتَيْنِ، وَأَيُّهُمَا كَانَ فَهُوَ دَلِيلٌ. وَمِنَ الْقِيَاسِ: أَنَّهُ وَطْءٌ مُحَرَّمٌ بِدَوَاعِيهِ غَيْرُ مُخْتَلَفٍ فِيهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْعِلْمِ بِتَحْرِيمِهِ مُوجِبًا لِلْحَدِّ، إِذَا لَمْ يُصَادِفُ مِلْكًا قِيَاسًا عَلَيْهِ إِذَا تَجَرَّدَ عَنْ عَقْدٍ. فَإِنْ قِيلَ: الْعَقْدُ شُبْهَةٌ. قِيلَ: الشُّبْهَةُ مَا اشْتَبَهَ حُكْمُهُ بِالِاخْتِلَافِ فِي إِبَاحَتِهِ كَنِكَاحِ الْمُتْعَةِ، وَهَذَا غَيْرُ مُشْتَبَهٍ لِلنَّصِّ عَلَى تَحْرِيمِهِ، فَلَمْ يَكُنْ شُبْهَةً. وَقَوْلُنَا: يَحْرُمُ بِدَوَاعِيهِ، احْتِرَازًا مِنْ وَطْءِ الْمُحَرَّمَةِ وَالصَّائِمَةِ الْحَائِضِ. وَقَوْلُنَا: غَيْرُ مُخْتَلَفٍ فِيهِ، احْتِرَازًا مِنَ الْمَنَاكِحِ الْمُخْتَلِفِ فِيهَا. وَقَوْلُنَا: إِذَا لَمْ يُصَادِفُ مِلْكًا، احْتِرَازًا مِنَ الْأَمَةِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ اثْنَيْنِ. وَلِأَنَّهُ عَقَدَ عَلَى مَنْ لَا يُسْتَبَاحُ بِحَالٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ وَجُودُهُ كَعَدَمِهِ، كَالْعَقْدِ عَلَى الْغُلَامِ، وَلِأَنَّ هَذَا الْعَقْدَ لَا تَأْثِيرَ لَهُ: لِوُجُودِ التَّحْرِيمِ بَعْدَهُ كَوُجُودِهِ قَبْلَهُ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمَنَاكِحِ الْفَاسِدَةِ فَالْمَعْنَى فِيهِ: مَا ذَكَرْنَا مِنَ اخْتِلَافِ النَّاسِ فِيهِ. وَقِيَاسُهُمْ عَلَى الْكَافِرِينَ فَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّهُمْ يَرَوْنَهُ مُبَاحًا فِي دِينِهِمْ.
وَاسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّهُ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الزِّنَا فَغَيْرُ صَحِيحٍ: لِأَنَّ اسْمَ الزِّنَا لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ فِي الْمَجُوسِ: لِاعْتِقَادِهِمْ إِبَاحَتَهُ، وَيَنْطَلِقُ عَلَيْهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِلنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ عَلَى تَحْرِيمِهِ، فَهَذَا حُكْمُ الْعَقْدِ وَشُبْهَتُهُ، وَهُمَا شَرْطَانِ مِنَ السِّتَّةِ.
فصل: وَأَمَّا الْمِلْكُ: فَهُوَ أَنْ يَطَأَ بِهِ أَمَةً يَصِحُّ مِلْكُهُ لَهَا، وَلَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ وَطْؤُهَا حد الزنا، فَيَكُونُ مُبَاحًا كَالنِّكَاحِ. فَإِنْ كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ كَالْأُمَّهَاتِ وَالْأَخَوَاتِ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ فِي وَطْئِهِنَّ عَلَى أَصْلِهِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ. وَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ يُنْظَرُ، فَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا يَسْتَقِرُّ لَهُ عَلَيْهَا مِلْكٌ كَالْأُمِّ وَالْجَدَّةِ فَوَطْؤُهُ لَهَا وَإِنْ مَلِكَهَا زِنًا يُوجِبُ الْحَدَّ: لِأَنَّ مِلْكَهُ قَدْ زَالَ بِعِتْقِهَا عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ يَسْتَقِرُّ لَهُ عَلَيْهَا مِلْكٌ مِنَ الْأَخَوَاتِ وَالْعَمَّاتِ وَسَائِرِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ، فَفِي وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهَا بِالْوَطْءِ- مَعَ الْعِلْمِ بِالتَّحْرِيمِ- قَوْلَان:
أحدهما: يَجِبُ الْحَدُّ عَلَيْهِ: لِأَنَّهُ مِلْكٌ لَا يُسْتَبَاحُ بِهِ الْوَطْءُ بِحَالٍ، فَأَشْبَهَ مِلْكَ الْغُلَامِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا حَدَّ فِيهِ: لِأَنَّ الْجِنْسَ الْمُسْتَبَاحَ إِذَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ مِلْكٌ مَنَعَ مِنْ وُجُوبِ الْحَدِّ- مَعَ الْعِلْمِ بِالتَّحْرِيمِ- كَالْأَمَةِ الْمُشْتَرَكَةِ، وَيَكُونُ الْمِلْكُ مُخَالِفًا لِلنِّكَاحِ: لِأَنَّ الْمِلْكَ ثَابِتٌ، فَكَانَ مِنْ أَقْوَى الشُّبَهِ، وَالنِّكَاحُ غَيْرُ ثَابِتٍ فَارْتَفَعَتْ شُبْهَتُهُ مَعَ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَصَارَ بِخِلَافِ وَطْءِ الْغُلَامِ الَّذِي لَا يُسْتَبَاحُ جِنْسُهُ بِحَالٍ، فَهَذَا الشَّرْطُ الثَّالِثُ.
فصل: وَأَمَّا الشَّرْطُ الرَّابِعُ وَهُوَ شُبْهَةُ الْمِلْكِ: فَهُوَ أَنْ يَمْلِكَهَا بِعَقْدٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ، فَيَكُونُ فِي سُقُوطِ الْحَدِّ كَالْمَنَاكِحِ الْمُخْتَلَفِ فِي إِبَاحَتِهَا. فَإِنْ كَانَ مُتَّفَقًا عَلَى فَسَادِهِ غَيْرَ مُخْتَلَفٍ فِي إِبَاحَتِهِ، كَانَ الْوَطْءُ فِيهِ مُوجِبًا لِلْحَدِّ، وَهَكَذَا الْمُرْتَهِنُ إِذَا وَطِئَ جَارِيَةً قَدِ اسْتَرَقَّهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا حَدَّ عَلَى الْوَاطِئِ فِي شَيْءٍ مِنْهُ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ.
فصل: وَأَمَّا الشَّرْطُ الْخَامِسُ وَهُوَ شُبْهَةُ الْفِعْلِ: فَهُوَ أَنْ يَجِدَ عَلَى فِرَاشِهِ امْرَأَةً يَظُنُّهَا أَمَتَهُ، أَوْ زَوْجَتَهُ، وَتَظُنُّهُ زَوْجَهَا، أَوْ سَيِّدَهَا، فَيَطَأَهَا وَتُمَكِّنَهُ حد الزنا فَلَا حَدَّ عِنْدِ الشَّافِعِيِّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: عَلَيْهَا الْحَدُّ: اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْحَدَّ إِنَّمَا يَسْقُطُ بِعَقْدٍ أَوْ شُبْهَةِ عَقْدٍ، وَلَيْسَ هَاهُنَا عَقْدٌ وَلَا شُبْهَةُ عَقْدٍ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْقُطَ الْحَدُّ كَالْعَمْدِ. وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّهُ وَطِئَ مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّهَا زَوْجَتُهُ حد الزنا، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ إِذَا بَانَ أَنَّهَا غَيْرُ زَوْجَتِهِ، قِيَاسًا عَلَى الْمَزْفُوفَةِ إِلَيْهِ، إِذَا قِيلَ: إِنَّهَا زَوْجَتُهُ. فَبَانَتْ غَيْرُ زَوْجَتِهِ. وَبِهِ يَفْسُدُ اسْتِدْلَالُهُ، وَلِأَنَّهُ وَطْءٌ يَثْبُتُ بِهِ تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ فِيهِ الْحَدُّ كَالْوَطْءِ فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ. فَإِنْ قِيلَ: لِأَنَّ الْمُتْعَةَ عَقْدٌ. قِيلَ: الْعُقُودُ الْفَاسِدَةُ لَا تُبِيحُ الْوَطْءَ، وَلَمَّا لَمْ يَمْنَعْ هَذَا الْفَرْقُ مِنَ اسْتِوَائِهِمَا فِي تَحْرِيمِ الْمُصَاهَرَةِ، لَمْ يَمْنَعْ مِنَ اسْتِوَائِهِمَا فِي سُقُوطِ الْحَدِّ.
فصل: وَأَمَّا الشَّرْطُ السَّادِسُ وَهُوَ الْعِلْمُ بِالتَّحْرِيمِ الزنا: فَلِأَنَّ الْعِلْمَ بِهِ هُوَ الْمَانِعُ مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ، كَالَّذِي لَمْ تَبْلُغْهُ دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ لَمْ يَلْزَمْهُ أَحْكَامُهُ، كَذَلِكَ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ تَحْرِيمَ الزِّنَا لَمْ تَجْرِ عَلَيْهِ أَحْكَامُهُ. وَالَّذِي لَا يَعْلَمُ تَحْرِيمَ الزِّنَا- مَعَ النَّصِّ الظَّاهِرِ فِيهِ، وَإِجْمَاعُ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ عَلَيْهِ- أَحَدُ ثَلَاثَةٍ: إِمَّا مَجْنُونٌ أَفَاقَ بَعْدَ بُلُوغِهِ فَزَنَا لِوَقْتِهِ. أَوْ حَدِيثُ عَهْدٍ بِإِسْلَامٍ لَمْ يَعْلَمْ أَحْكَامَهُ. أَوْ قَادِمٌ مِنْ بَادِيَةٍ لَمْ يَظْهَرْ فِيهَا تَحْرِيمُهُ.
فَإِنِ ادَّعَى الزَّانِي أَنَّهُ جَهِلَ تَحْرِيمَ الزِّنَا نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ مِنْ أَحَدِ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ كَانَ قَوْلُهُ مَقْبُولًا وَلَا يَلْزَمُهُ إِحْلَافُهُ إِلَّا اسْتِظْهَارًا: لِأَنَّهُ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ: لِأَنَّ الظَّاهِرَ خِلَافُهُ.
فصل: فَإِذَا تَكَامَلَتْ فِي الْوَاطِئِ وَالْمَوْطُوءَةِ شُرُوطُ الزِّنَا السِّتَّةُ وَجَبَ الْحَدُّ عَلَيْهِمَا، سَوَاءٌ وَطِئَ فِي قُبُلٍ أَوْ دُبُرٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَكُونُ الْوَطْءُ فِي الدُّبُرِ حد الزنا زِنًا، وَلَا يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ، حَتَّى قَالَ: إِنَّهُ لَا يَفْسُدُ بِهِ الْحَجُّ وَالصِّيَامُ، وَلَا تَجِبُ بِهِ الْكَفَّارَةُ، وَلَا يَجِبُ بِهِ الْغُسْلُ إِلَّا أَنْ يَنْزِلَ مِنْهُ فَيَغْتَسِلُ بِالْإِنْزَالِ: اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ اسْتِمْتَاعٌ لَا يُفْضِي إِلَى فَسَادِ النَّسَبِ، فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ وُجُوبُ الْحَدِّ كَالِاسْتِمْتَاعِ بِمَا دُونَ الْفَرْجِ. وَدَلِيلُنَا: أَنَّهُ إِيلَاجٌ فِي أَحَدِ الْفَرْجَيْنِ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ وُجُوبُ الْحَدِّ كَالْقُبُلِ، وَلِأَنَّ تَحْرِيمَهُ أَغْلَظُ مِنْ تَحْرِيمِ الْقُبُلِ: لِأَنَّهُ لَا يُسْتَبَاحُ بِالْعَقْدِ، فَكَانَ بِوُجُوبِ الْحَدِّ أَحَقَّ. فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّهُ لَا يُفْضِي إِلَى فَسَادِ النَّسَبِ: فَالْعِلَّةُ فِيهِ هَتْكُ الْحُرْمَةِ. [وَفَسَادُ النَّسَبِ تَابِعٌ: لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ وَلَا يَكُونُ، وَهَذَا أَعْظَمُ فِي هَتْكِ الْحُرْمَةِ].